فصل: الصنف الثاني أرباب العبادة والعمل

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إحياء علوم الدين **


بيان أصناف المغترين وأقسام فرق كل صنف

وهم أربعة أصناف

الصنف الأول أهل العلم والمغترون

منهم فرق‏:‏ ‏"‏ ففرقة ‏"‏ أحكموا العلوم الشرعية وتعمقوا فيها واشتغلوا بها وأهملوا تفقد الجوارح وحفظها عن المعاصي وإلزامها الطاعات واغتروا بعلمهم وظنوا أنهم عند الله بمكان وأنهم قد بلغوا من العلم مبلغاً لا يعذب الله مثلهم بل يقبل في الخلق شفاعتهم وأنه لا يطالبهم بذنوبهم وخطاياهم لكرامتهم على الله وهم مغرورون فإنهم لو نظروا بعين البصيرة علموا أن العلم علمان‏:‏ علم معاملة وعلم مكاشفة وهو العلم بالله وبصفاته المسمى بالعادة‏:‏ علم المعرفة‏.‏

فأما العلم بالمعاملة‏:‏ كمعرفة الحلال والحرام ومعرفة أخلاق النفس المذمومة والمحمودة وكيفية

علاجها والفرار منها فهي علوم لا تراد إلا للعمل ولولا الحاجة إلى العمل لم يكن لهذه العلوم قيمة وكل علم يراد للعمل فلا قيمة له دون العمل‏.‏

فمثال هذا‏:‏ كمريض به عله لا يزيلها إلا دواء مركب من أخلاط كثيرة لا يعرفها إلا حذاق الأطباء فيسعى في طلب الطبيب بعد أن هاجر عن وطنه حتى عثر على طبيب حاذق فعلمه الدواء وفصل له الأخلاط وأنواعها ومقاديرها ومعادنها التي منها تجتلب وعلمه كيفية دق كل واحد منها وكيفية خلطه وعجنه فتعلم ذلك وكتب منه نسخة حسنة بخط حسن ورجع إلى بيته وهو يكررها ويعلمها المرضى ولم يشتغل بشربها واستعمالها‏.‏

أفترى أن ذلك يغني عنه من مرضه شيئاً هيهات هيهات‏!‏ لو كتب منه ألف نسخة وعلمه ألف مريض حتى شفى جميعهم وكرره كل ليلة ألف مرة لم يغنه ذلك من مرضه شيئاً إلا أن يزن الذهب ويشترى الدواء ويخلطه كما تعلم ويشربه ويصبر على مرارته ويكون شربه في وقته وبعد تقديم الاحتماء وجميع شروطه وإذا فعل جميع ذلك فهو على خطر من شفائه فكيف إذا لم يشربه أصلاً فمهما ظن أن ذلك يكفيه ويشفيه فقد ظهر غروره‏.‏

وهكذا الفقيه الذي أحكم علم الطاعات ولم يعملها وأحكم علم المعاصي ولم يجتنبها وأحكم علم الأخلاق المذمومة وما زكى نفسه منها وأحكم على الأخلاق المحمودة ولم يتصف بها فهو مغرور إذ قال تعالى ‏"‏ قد افلح من زكاها ‏"‏ ولم يقل قد أفلح من تعلم كيفية تزكيتها وكتب علم ذلك وعلمه الناس‏!‏ وعند هذا يقول له الشيطان‏:‏ لا يغرنك هذا المثال فإن العلم بالدواء لا يزيل المرض وإنما مطلبك القرب من الله وثوابه والعلم يجلب الثواب ويتلو عليه الأخبار الواردة في فضل العلم‏.‏

فإن كان المسكين معتوهاً مغروراً وافق ذلك مراده وهواه فاطمأن إليه وأهمل العمل وإن كان كيساً فيقول للشيطان‏:‏ أتذكرني فضائل العالم وتنسيني ما ورد في العالم الفاجر الذي لا يعمل بعلمه كقوله تعالى ‏"‏ فمثله كمثل الكلب ‏"‏ وكقوله تعالى ‏"‏ مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً ‏"‏ فأي خزي أعظم من التمثيل بالكلب والحمار وقد قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من ازداد علماً ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلا بعداً وقال أيضاً ‏"‏ يلقى العالم في النار فتندلق أقتابه فيدور بها في النار كما يدور الحمار في الرحى وكقوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏ شر الناس العلماء السوء وقول أبي الدرداء‏:‏ ويل للذي لا يعلم مرة ولو شاء الله لعلمه وويل للذي يعلم ولا يعمل سبع مرات أي أن العلم حجة عليه إذ يقال له‏:‏ ماذا عملت فيما علمت وكيف قضيت شكر الله وقال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه فهذا وأمثاله مما أرودناه في كتاب العلم في باب علامة علماء الآخرة أكثر من أن يحصى إلا أن هذا فيما لا يوافق هوى العالم الفاجر وما ورد في فضل العلم يوافقه فيميل الشيطان قلبه إلى ما يهواه وذلك عين الغرور ف إنه إن نظر بالبصيرة فمثاله ما ذكرناه وإن نظر بعين الإيمان فالذي أخبره بفضيلة العلم هو الذي أخبره بذم العلماء السوء وأن حالهم عند الله أشد من حال الجهال‏.‏

فبعد ذلك اعتقاده أنه على خير مع تأكد حجة الله عليه غاية الغرور‏.‏

وأما الذي يدعي علوم المكاشفة‏:‏ كالعلم بالله وبصفاته وأسمائه وهو مع ذلك يعمل العمل ويضيع أمر الله وحدوده فغروره أشد ومثاله مثال من أراد خدمة ملك فعرف الملك وعرف أخلاقه وأوصافه ولونه وشكله وطوله وعرضه وعادته ومجلسه ولم يتعرف ما يحبه ويكرهه وما يغضب عليه وما يرضى به أو عرف ذلك إلا أنه قصد خدمته وهو ملابس لجميع ما يغضب به عليه وعاطل عن جميع ما يحبه من زي وهيئة وكلام وحركة وسكون فورد على الملك وهو يريد التقرب منه والاختصاص به متلطخاً بجميع ما يكرهه الملك عاطلاً عن جميع ما يحبه متوسلاً إليه بمعرفته له ولنسبه واسمه وبلده وصورته وشكله وعادته في سياسة غلمانه ومعاملة رعيته‏.‏

فهذا مغرور جداً إذ لو ترك جميع ما عرفه واشتغل بمعرفته فقط ومعرفة ما يكرهه ويحبه لكان ذلك أقرب إلى نيله المراد من قربة والاختصاص به بل تقصيره في التقوى واتباعه للشهوات يدل على أنه لم ينكشف له من معرفة الله إلا الأسامي دون المعاني إذ لو عرف الله حق معرفته لخشيه واتقاه‏.‏

فلا يتصور أن يعرف الأسد عاقل ثم لا يتقيه ولا يخافه وقد أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام‏:‏ خفني كما تخاف السبع الضاري‏.‏

نعم من يعرف من الأسد لونه وشكله واسمه قد لا يخافه وكأنه ما عرف الأسد فمن عرف الله تعالى عرف من صفاته أنه يهلك العالمين ولا يبالي ويعلم أنه مسخر في قدرة من لو أهلك مثله آلافاً مؤلفة وأبد عليهم العذاب أبد الآباد لم يؤثر ذلك فيه أثراً ولم تأخذه عليه رقة ولا اعتراه عليه جزع‏.‏

ولذلك قال تعالى ‏"‏ إنما يخشى الله من عباده العلماء ‏"‏ وفاتحة الزبور ‏"‏ رأس الحكمة خشية الله ‏"‏ وقال ابن مسعود‏:‏ كفى بخشية الله علماً وكفى بالاغترار بالله جهلاً‏.‏

واستفتى الحسن عن مسألة فأجاب فقيل له‏:‏ إن فقهاءنا لا يقولون ذلك فقال‏:‏ وهل رأيت فقيهاً قط الفقيه القائم ليلة الصائم نهاره الزاهد في الدنيا‏.‏

وقال مرة‏:‏ الفقيه لا يداري ولا يماري ينشر حكمة الله فإن قبلت منه حمد الله وإن ردت عليه حمد الله‏.‏

فإذن الفقيه من فقه عن الله أمره ونهيه وعلم من صفاته ما أحبه وما كرهه وهو العالم ‏"‏ ومن يرد الله به خيراً يفقه في الدين ‏"‏ وإذا لم يكن بهذه الصفة فهو من المغرورين‏.‏

وفرقة أخرى أحكموا العلم والعمل فواظبوا على الطاعات الظاهرة وتركوا المعاصي إلا أنهم لم يتفقدوا قلوبهم ليمحوا الصفات المذمومة عند الله من الكبر والحسد والرياء وطلب الرياسة والعلاء وإرادة السوء للأقران والنظراء وطلب الشهرة في البلاء والعباد وربما لم يعرف بعضهم أن ذلك مذموم فهو مكب عليها غير متحرز عنها ولا يلتفت إلى قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أدنى الرياء شرك وإلى قوله عليه السلام ‏"‏ لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ‏"‏ وإلى قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏ الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب وإلى قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏ حب الشرف والمال ينبتان النفاق كما ينبت الماء البقل إلى غير ذلك من الأخبار التي أوردناها في جميع ربع المهلكات في الأخلاق المذمومة‏.‏

فهؤلاء زينوا ظواهرهم وأهملوا بواطنهم ونسوا قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم فتعهدوا الأعمال وما تعهدوا القلوب والقلب هو الأصل إذ لا ينجو إلا من أتى الله بقلب سليم‏.‏

ومثال هؤلاء كبئر الحش ظاهرها جص وباطنها نتن أو كقبور الموتى ظاهرها مزين وباطنها جيفة أو كبيت مظلم باطنه وضع سراج على سطحه فاستنار ظاهره وباطنه مظلم أو كرجل قصد الملك ضيافته إلى داره فجصص باب داره وترك المزابل في صدر داره ولا يخفى أن ذلك غرور بل أقرب مثالي إليه‏:‏ رجل زرع زرعاً فنبت ونبت معه حشيش يفسده فأمر بتنقية الزرع عن الحشيش بقلعه من أصله فأخذ يجز رؤوس وأطرافه فلا تزال تقوى أصوله فتنبت لأن مغارس المعاصي هي الأخلاق الذميمة في القلب فمن لا يطهر القلب منها لا تتم له الطاعات الظاهرة إلا مع الآفات الكثيرة‏.‏

بل هو كمريض ظهر به الجرب وقد أمر بالطلاء وشرب الدواء فالطلاء ليزيل ما على ظاهره والدواء ليقطع مادته من باطنه فقنع بالطلاء وترك الدواء وبقي يتناول ما يزيد في المادة فلا يزال يطلي الظاهر والجرب دائم به يتفجر من المادة التي في الباطن‏.‏

وفرقة أخرى علموا أن هذه الأخلاق الباطنة مذمومة من جهة الشرع إلا أنهم لعجبهم بأنفسهم يظنون أنهم منفكون عنها وأنهم أرفع عند الله من أن يبتليهم بذلك وإنما يبتلي به العوام دون من بلغ مبلغهم في العلم فأما هم فأعظم عند الله من أن يبتليهم ثم إذا ظهر عليهم مخايل الكبر والرياسة وطل بالعلو والشرف قالوا‏:‏ ما هذا كبر وإنما هو طلب عز الدين وإظهار شرف العلم ونصرة دين الله وإرغام أنف المخالفين من المبتدعين‏!‏ وإني لو لبست الدون من الثياب وجلست في الدون من المجالس لشمت بي أعداء الدين وفرحوا بذلك وكان ذلي ذلاً على الإسلام ونسي المغرور أن عدوه الذي ضده منه مولاه هو الشيطان وأنه يفرح بما يفعله ويسخر به وينسى أن النبي صلى الله عليه وسلم بماذا نصر الدين وبماذا أرغم الكافرين ونسي ما روي عن الصحابة من التواضع والتبذل والقناعة بالفقر والمسكنة حتى عوتب عمر رضي الله عنه في بذاذة زيه عند قدومه إلى الشام فقال‏:‏ إنا قوم أعزنا الله بالإسلام فلا نطلب العز في غيره‏.‏

ثم هذا المغرور يطلب عز الدين بالثياب الرقيقة من القصب والديبقي والإبريسم المحرم والخيول والمراكب ويزعم أنه يطلب به عز العلم وشرف الدين‏!‏ كذلك مهما أطلق اللسان بالحسد في أقرانه أو فيمن رد عليه شيئاً من كلامه لم يظن بنفسه أن ذلك حسد ولكن قال‏:‏ إنما هذا غضب للحق ورد على المبطل في عدوانه وظلمه ولم يظن بنفسه الحسد حتى يعتقد أنه لو طعن في غيره من أهل العلم أو منع غيره من رياسة وزوحم فيها هل كان غضبه وعداوته مثل غضبه الآن فيكون غضبه لله أم لا يغضب مهما طعن في عالم آخر ومنع بل ربما يفرح به فيكون غضبه لنفسه وحسده لأقرانه من خبث باطنه وهكذا يرأئي بأعماله وعلومه وإذا خطر له خاطر الرياء قال‏:‏ هيهات‏!‏ إنما غرضي من إظهار العلم والعمل اقتداء الخلق بي ليهتدوا إلى دين الله تعالى فيتخلصوا من عقاب الله تعالى ولا يتأمل المغرور أنه ليس يفرح باقتداء الخلق بغيره كما يفرح باقتدائه به فلو كان غرضه صلاح الخلق لفرح بصلاحهم على يد من كان كمن له عبيد مرضى يريد معالجتهم فإنه لا يفرق بين أن يحصل شفاؤهم على يده أو على يد طبيب آخر وربما يذكر هذا له فلا يخيله الشيطان أيضاً ويقول‏:‏ إنما ذلك لأنهم إذا اهتدوا بي كان الأجر لي والثواب لي فإنما فرحي بثواب الله لا بقبول الخلق قولي‏!‏ هذا ما يظنه بنفسه والله مطلع من ضميره على أنه لو أخبره نبي بأن ثوابه في الخمول وإخفاء العلم أكثر من ثوابه في الإظهار وحبس مع ذلك في سجن وقيد بالسلاسل لاحتال في هدم السجن وحل السلاسل حتى يرجع إلى موضعه الذي به تظهر رياسته من تدريس أو وعظ أو غيره وكذلك يدخل على السلطان ويتودد إليه ويثني عليه ويتواضع له وإذا خطر له أن التواضع للسلاطين الظلمة حرام قال له الشيطان‏:‏ هيهات‏!‏ إنما ذلك عند الطمع في مالهم فأما أنت فغرضك أن تشفع للمسلمين وتدفع الضرر عنهم وتدفع شر أعدائك عن نفسك‏!‏ والله يعلم من باطنه أنه لو ظهر لبعض أقرانه قبول عند ذلك السلطان فصار يشفعه في كل مسلم حتى دفع الضرر عن جميع المسلمين ثقل ذلك عليه ولو قدر على أن يقبح حاله عند السلطان بالطعن فيه والكذب عليه لفعل وكذلك قد ينتهي غرور بعضهم إلى أن يأخذ من مالهم وإذا خطر له أنه حرام قال له الشيطان‏:‏ هذا مال لا مالك له وهو لمصالح المسلمين وأنت إمام المسلمين وعالمهم وبك قوام الدين‏!‏ أفلا يحل لك أن تأخذ قدر حاجتك فيغتر بهذا التلبيس في ثلاثة أمور أحدها في أنه مال لا مالك له فإنه يعرف أنه يأخذ الخراج من المسلمين وأهل السواد والذين أخذ منهم أحياء وأولادهم وورثتهم أحياء وغاية الأمر وقوع الخلط في أموالهم ومن غصب مائة دينار من عشرة أنفس وخالطها فلا خلاف في أنه مال حرام ولا يقال هو مال لا مالك له ويجب أن يقسم بين العشرة ويرد إلى كل واحد عشرة وإن كان مال كل واحد قد اختلط بالآخر الثاني والثالث في قوله إنك من مصالح المسلمين وبك قوام الدين ولعل الذين فسد دينهم واستحلوا أموال السلاطين ورغبوا في طلب الدنيا والإقبال على الرياسة والإعراض عن الآخرة بسببه أكثر من الذين زهدوا في الدنيا ورفضوها وأقبلوا على الله فهو على التحقيق دجال الدين وقوام مذهب الشياطين لا إمام الدين‏.‏

إذ الإمام‏:‏ هو الذي يقتدى به في الإعراض عن الدنيا والإقبال على الله كالأنبياء عليهم السلام والصحابة وعلماء السلف‏.‏

والدجال‏:‏ هو الذي يقتدى به في الإعراض عن الله والإقبال على الدنيا‏.‏

فلعل موت هذا أنفع للمسلمين من حياته وهو يزعم أنه قوام الدين‏.‏

ومثله كما قال المسيح عليه السلام للعالم السوء‏:‏ إنه كصخرة وقعت في فم الوادي فلا هي تشرب الماء ولا هي تترك الماء يخلص إلى الزرع‏.‏

وأصناف غرور أهل العلم في هذه الأعصار المتأخرة خارجة عن الحصر وفيما ذكرناه تنبيه بالقليل على الكثير‏.‏

وفرقة أخرى أحكموا العلم وطهروا الجوارح وزينوها بالطاعات واجتنبوا ظواهر المعاصي وتفقدوا أخلاق النفس وصفات القلب من الرياء والحسد والحقد والكبر وطلب العلو وجاهدوا أنفسهم في التبري منها وقلعوا من القلوب منابتها الجلية القوية ولكنهم بعد مغرورون إذ بقيت في زوايا القلب من خفايا مكايد الشيطان وخبايا خداع النفس مادق وغمض مدركه فلم يفطنوا لها وأهملوها وإنما مثاله من يريد تنقية الزرع من الحشيش فدار عليه وفتش عن كل حشيش رآه فقلعه إلا أنه لم يفتش على ما لم يخرج رأسه بعد من تحت الأرض وظن أن الكل قد ظهر وبرز وكان قد نبت من أصول الحشيش شعب لطاف فانبسطت تحت التراب فأهملها وهو يظن أنه قد اقتلعها فإذا هو بها في غفلته وقد نبتت وقويت وأفسدت أصول الزرع من حيث لا يدري‏.‏

فكذلك العالم قد يفعل جميع ذلك ويذهل عن المراقبة للخفايا والتفقد للدفائن فتراه يسهر ليله ونهاره في جمع العلوم وترتيبها وتحسين ألفاظها وجمع التصانيف فيها وهو يرى أن باعثه الحرص على إظهار دين الله ونشر شريعته‏.‏

ولعل باعثه الخفي هو طلب الذكر وانتشار الصيت في الأطراف وكثرة الرحلة إليه من الآفاق وانطلاق الألسنة عليه بالثناء والمدح بالزهد والورع والعلم والتقديم له في المهمات وإيثاره في الأغراض والاجتماع حوله للاستفادة والتلذذ بحسن الإصغاء عند حسن اللفظ والإيراد والتمتع بتحريك الرؤوس إلى كلامه والبكاء عليه والتعجب منه والفرح بكثرة الأصحاب والأتباع والمستفيدين والسرور بالتخصص بهذه الخاصية من بين سائر الأقران والأشكال للجمع بين العلم والورع وظاهر الزهد والتمكن به من إطلاق لسان الطعن في الكافة المقبلين على الدنيا لا عن تفجع بمصيبة الدين ولكن عن إدلال بالتمييز واعتداد بالتخصيص‏.‏

ولعل هذا المسكين المغرور حياته في الباطن بما انتظم له من أمر وإمارة وعز وانقياد وتوقير وحسن ثناء فلو تغيرت عليه القلوب واعتقدوا فيه خلاف الزهد بما يظهر من أعماله فعساه يتشوش عليه قلبه وتختلط أوراده ووظائفه‏.‏

وعساه يعتذر بكل حيلة لنفسه وربما يحتاج إلى أن يكذب في تغطية عيبه‏.‏

وعساه يؤثر بالكرامة والمراعاة من اعتقد فيه الزهد والورع وإن كان قد اعتقد فيه فوق قدره وينبوا قلبه عمن عرف حد فضله وورعه وإن كان ذلك على وفق حاله وعساه يؤثر بعض أصحابه على بعض وهو يرى أنه يؤثره لتقدمه في الفضل والورع وإنما ذلك لأنه أطوع له وأتبع لمراده وأكثر ثناء عليه وأشد إصغاء إليه وأحرص على خدمته ولعلهم يستفيدون منه ويرغبون في العلم وهو يظن أن قبولهم له لإخلاصه وصدقه وقيامه بحق علمه فيحمد الله تعالى على ما يسر على لسانه من منافع خلقه ويرى أن ذكر ذلك مكفر لذنوبه ولم يتفقد مع نفسه تصحيح النية فيه‏.‏

وعساه لو وعد بمثل ذلك الثواب في إيثاره الخمول والعزل وإخفاء العلم لم يرغب فيه لفقده في العزلة ولاختفاء لذة القبول وعزة الرياسة ولعل مثل هذا هو المراد بقول الشيطان‏:‏ من زعم من بني آدم أنه بعلمه امتنع مني فنجهله وقع في حبائلي‏.‏

وعساه يصنف ويجتهد فيه ظاناً أنه يجمع علم الله لينتفع به وإنما يريد به استطارة اسمه بحسن التصنيف فلو ادعى مدع تصنيفه ومحا عنه اسمه ونسبه إلى نفسه ثقل عليه ذلك مع علمه بأن ثواب الاستفادة من التصنيف إنما يرجع إلى المصنف والله يعلم بأنه هو المصنف لا من ادعاه ولعله في تصنيفه لا يخلو من الثناء على نفسه إما صريحاً بالدعاوي الطويلة العريضة وإما ضمناً بالطعن في غيره ولعله يحكي من الكلام المزيف ما يزيد تزييفه فيعزيه إلى قائله وما يستحسنه فعله لا يعزيه إليه ليظن أنه من كلامه فينقله بعينه كالسارق له أو يغيره أدنى تغيير كالذي يسرق قميصاً فيتخذه قباء حتى لا يعرف أنه مسروق ولعله يجتهد في تزيين ألفاظه وتسجيعه وتحسين نظمه كيلا ينسب إلى الركاكة ويرى أن غرضه ترويج الحكمة وتحسينها وتزيينها ليكون أقرب إلى نفع الناس‏.‏

وعساه غافلاً عما روي أن بعض الحكماء وضع ثلثمائة مصحف في الحكمة فأوحى الله إلى بني زمانه قل له قد ملأت الأرض نفاقاً وإني لا أقبل من نفاقك شيئاً‏.‏

ولعل جماعة من هذا الصنف من المغترين إذا اجتمعوا ظن كل واحد بنفسه السلامة عن عيوب القبل وخفاياه فلو افترقوا واتبع كل واحد منهم فرقة من أصحابه نظر كل واحد إلى كثرة من يتبعه وأنه أكثر تبعاً أو غيره فيفرح إن كان أتباعه أكثر وإن علم أن غيره أحق بكثرة الأتباع منه ثم إذا تفرقوا واشتغلوا بالإفادة تغايروا وتحاسدوا ولعل من يختلف إلى واحد منهم إذا انقطع عنه إلى غيره ثقل على قلبه ووجد في نفسه نفرة منه فبعد ذلك لا يهتز باطنه لإكرامه ولا يتشمر لقضاء حوائجه كما كان يتشمر من قبل ولا يحرص على الثناء عليه كما أثنى مع علمه بأنه مشغول بالاستفادة ولعل التحيز منه إلى فئة أخرى كان أنفع له في دينه لآفة من الآفات كانت تلحقه في هذه الفئة وسلامته عنها في تلك الفئة ومع ذلك لا تزول النفرة عن قلبه ولعل واحداً منهم إذا تحركت فيه مبادئ الحسد لم يقدر على إظهاره فيتعلل بالطعن في دينه وفي ورعه ليحمل غضبه على ذلك ويقول إنما غضبت لدين الله لا لنفسي‏.‏

ومهما ذكرت عيوبه بين يديه ربما فرح له وإن أثنى عليه ربما ساءه وكرهه وربما قطب وجهه إلا ذكرت عيوبه يظهر أنه كاره لغيبة المسلمين وسر قلبه راض به ومريد له والله مطلع عليه في ذلك‏.‏

فهذا وأمثاله من خفايا القلوب لا يفطن له إلا الأكياس ولا يتنزه عنه إلا الأقوياء ولا مطمع فيه لأمثالنا من الضعفاء إلا أن أقل الدرجات أن يعرف الإنسان عيوب نفسه ويسوءه ذلك ويكرهه ويحرص على إصلاحه فإذا أراد الله بعبد خيراً بصره بعيوب نفسه ومن سرته حسنته وساءته سيئته فهو مرجو الحال وأمره أقرب من المغرور المزكي لنفسه الممتن على الله بعمله وعلمه الظان أنه من خيار خلقه فنعوذ بالله من الغفلة والاغترار ومن المعرفة بخفايا العيوب مع الإهمال‏.‏

هذا غرور الذين حصلوا العلوم المهمة ولكن قصروا في العمل بالعلم‏.‏

ولنذكر الآن غرور الذين قنعوا من العلوم بما لم يهمهم وتركوا المهم وهم به مغترون إما لاستغنائهم عن أصل ذلك العلم وإما لاقتصارهم عليه‏.‏

فمنهم فرقة اقتصروا على علم الفتاوى في الحكومات والخصومات وتفاصيل المعاملات الدنيوية الجارية بين الخلق لمصالح العباد وخصصوا اسم الفقه بها وسموه الفقه وعلم المذاهب وربما ضيعوا مع ذلك الأعمال الظاهرة والباطنة فلم يتفقدوا الجوارح ولم يخرسوا اللسان عن الغيبة ولا البطن عن الحرام ولا الرجل عن المشي إلى السلاطين وكذا سائر الجوارح ولم يحرسوا قلوبهم عن الكبر والحسد والرياء وسائر المهلكات‏.‏

فهؤلاء مغرورون من وجهين أحدهما من حيث العمل والآخر من حيث العلم‏.‏

أما العمل‏:‏ فقد ذكرنا وجه الغرور فيه وأن مثالهم مثال المريض إذا تعلم نسحة الدواء واشتغل بتكراره وتعليمه لا بل مثالهم مثال من به علة البواسير والبرسام وهو مشرف على الهلاك ومحتاج إلى تعلم الدواء واستعماله فاشتغل بتعلم دواء الاستحاضة وبتكرار ذلك ليلاً ونهاراً مع علمه بأنه رجل لا يحيض ولا يستحاض ولكن يقول‏:‏ ربما تقع على الاستحاضة لامرأة وتسألني عن ذلك وذلك غاية الغرور‏.‏

فكذلك المتفقه المسكين قد يسلط عليه حب الدنيا واتباع الشهوات والحسد والكبر والرياء وسائر المهلكات الباطنة وربما يخطفه الموت قبل التوبة والتلافي فيلقى الله وهو عليه غضبان فترك ذلك كله واشتغل بعلم السلم والإجارة والظهار واللعان والجراحات والديات والدعاوي والبينات وبكتاب الحيض وهو لا يحتاج إلى شيء من ذلك قط في عمره لنفسه وإذا احتاج غيره كان في المفتين كثرة فيشتغل بذلك ويحرص عليه لما فيه من الجاه والرياسة والمال وقد دهاه الشيطان وما يشعر إذ يظن المغرور بنفسه أنه مشغول بفرض دينه وليس يدري أن الاشتغال بفرض الكفاية قبل الفراغ من فرض العين معصية‏.‏

هذا لو كانت نيته صحيحة كما قال وقد كان قصد بالفقه وجه الله تعالى وإن قصد وجه الله فهو باشتغاله له معرض عن فرض عينه في جوارحه وقلبه فهذا غروره من حيث العمل‏.‏

وأما غروره من حيث العلم‏:‏ فحيث اقتصر على علم الفتاوى وظن أنه علم الدين وترك كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وربما طعن في المحدثين وقال‏:‏ إنهم نقلة أخبار وحملة أسفار لا يفقهون وترك أيضاً علم تهذيب الأخلاق وترك الفقه عن الله تعالى بإدراك جلاله وعظمته وهو العلم الذي يورث الخوف والهيبة والخشوع ويحمل على التقوى فتراه آمناً من الله مغتراً به متكلاً على أنه لا بد وأن يرحمه فإنه قوم دينه وأنه لو لم يشتغل بالفتاوى لتعطل الحلال والحرام فقد ترك العلوم التي هي أهم وهو غافل مغرور وسبب غروره ما سمع في الشرع من تعظيم الفقه ولم يدر أن ذلك الفقه هو الفقه عن الله ومعرفة صفاته المخوفة والمرجوة ليستشعر القلب الخوف ويلازم التقوى إذ قال تعالى ‏"‏ فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلم يحذرون ‏"‏ والذي يحصل به الإنذار غير هذا العلم فإن مقصود هذا العلم‏:‏ حفظ الأموال بشروط المعاملات وحفظ الأبدان بالأموال وبدفع القتل والجراحات والمال في طريق الله آلة والبدن مركب‏.‏

وإنما العلم المهم هو معرفة سلوك الطريق وقطع عقبات القلب التي هي الصفات المذمومة فهي الحجاب بين العبد وبين الله تعالى وإذا مات ملوثاً بتلك الصفات كان محجوباً عن الله‏.‏

فمثاله في الاقتصار على علم الفقه مثال من اقتصر من سلوك طريق الحج على علم خرز الراوية والخف ولا شك في أنه لو لم يكن لتعطل الحج ولكن المقتصر عليه ليس من الحج في شيء ولا بسبيله وقد ذكرنا شرح ذلك في كتاب العلم ومن هؤلاء من اقتصر من علم الفقه على الخلافيات ولم يهمه إلا تعلم طريق المجادلة والإلزام وإفحام الخصوم ودفع الحق لأجل الغلبة والمباهاة فهو طول الليل والنهار في التفتيش عن مناقضات أرباب المذاهب والتفقد لعيوب الأقران والتلقف لأنواع التسبيبات المؤذية وهؤلاء هم سباع الإنس طبعهم الإيذاء وهمهم السفه ولا يقصدون العلم إلا لضرورة ما يلزمهم لمباهاة الأقران فكل علم لا يحتاجون إليه في المباهاة كعلم القلب وعلم سلوك الطريق إلى الله تعالى بمحو الصفات المذمومة وتبديلها بالمحمودة فإنهم يستحقرون ويسمونه التزويق وكلام الوعاظ وإنما التحقيق عندهم معرفة تفاصيل العربدة التي تجري بين المتصارعين في الجدل‏.‏

وهؤلاء قد جمعوا ما جمعه الذين من قبلهم في علم الفتاوى لكن زادوا إذ اشتغلوا بما ليس من فروض الكفايات أيضاً بل جميع دقائق الجدل في الفقه بدعة لم يعرفها السلف وأما أدلة الأحكام فيشتمل عليها علم المذهب وهو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفهم معانيهما‏.‏

وأما حيل الجدل من الكسر والقلب وفساد الوضع والتركيب والتعدية فإنما أبدعت لإظهار الغلبة والإفحام وإقامة سوق الجدل بها فغرور هؤلاء أشد كثيراً وأقبح من غرور من قبلهم‏.‏

وفرقة أخرى اشتغلوا بعلم الكلام والمجادلة في الأهواء والرد على المخالفين وتتبع مناقضاتهم واستكثروا من معرفة المقالات المختلفة واشتغلوا بتعلم الطرق في مناظرة أولئك وإفحامهم وافترقوا في ذلك فرقاً كثيرة واعتقدوا أنه لا أحد أعرف بالله وبصفاته منهم وأنه لا إيمان لمن لم يعتقد مذهبهم ولم يتعلم علمهم ودعت كل فرقة منهم إلى نفسها‏.‏

ثم هم فرقتان‏:‏ ضالة ومحقة فالضالة هي التي تدعو إلى غير السنة والمحقة هي التي تدعو إلى السنة والغرور شامل لجميعهم‏.‏

فلغفلتها عن ضلالها وظنها بنفسها النجاة وهم فرق كثير يكفر بعضهم بعضاً وإنما أتيت من حي إنها لم تتهم رأيها ولم تحكم أولاً شروط الأدلة ومناهجها فرأى أحدهم الشبهة دليلاً والدليل شبهة‏.‏

وأما الفرقة المحقة‏:‏ فإنما اغترارها من حيث إنها ظنت بالجدل أنه أهم الأمور وأفضل القرابات في دين الله وزعمت أنه لا يتم لأحد دينه ما لم يفحص ويبحث وأن من صدق الله ورسوله من غير بحث وتحرير دليل فليس بمؤمن أو ليس كامل الإيمان ولا مقرب عند الله‏.‏

فلهذا الظن الفاسد قطعت أعمارها في تعلم الجدل والبحث عن المقالات وهذيانات المبتدعة ومناقضاتهم وأهملوا أنفسهم وقلوبهم حتى عميت عليهم ذنوبهم وخطاياهم الظاهرة والباطنة وأحدهم يظن أن اشتغاله بالجدل أولى وأقرب عند الله وأفضل ولكنه لالتذاذه بالغلبة والإفحام ولذة الرياسة وعز الانتماء إلى الذب عن دين الله تعالى عميت بصيرته فلم يلتفت إلى القرن الأول فإن النبي صلى الله عليه وسلم شهد لهم بأنهم خير الخلق وأنهم قد أدركوا كثيراً من أهل البدع والهوى فما جعلوا أعمارهم ودينهم غرضاً للخصومات والمجادلات وما اشتغلوا بذلك عن تفقد قلوبهم وجوارحهم وأحوالهم بل لم يتكلموا فيه إلا من حيث رأوا حاجة وتوسموا مخايل قبول فذكروا بقدر الحاجة ما يدل الضال على ضلالته وإذا رأوا مصراً على ضلالة هجروه وأعرضوا عنه وأبغضوه في الله ولم يلزموا الملاحاة معه طول العمر بل قالوا‏:‏ إن الحق هو الدعوة إلى السنة ومن السنة ترك الجدل في الدعوة إلى السنة‏.‏

إذ روى أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏"‏ ما ضل قوم قط بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً على أصحابه وهم يتجادلون ويختصمون فغضب عليهم حتى كأنه فقئ في وجهه حب الزمان حمرة من الغضب فقال ‏"‏ ألهذا بعثتم أبهذا أمرتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض انظروا إلى ما أمرتم به فاعملوا وما نهيتم عنه فانتهوا ‏"‏ فقد زجرهم عن ذلك وكانوا أولى خلق الله بالحجاج والجدال‏.‏

ثم إنهم رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بعث إلى كافة أهل الملل فلم يقعد معهم في مجلس مجادلة لإلزام وإفحام وتحقيق حجة ودفع سؤال وإيراد إلزام فما جادلهم إلا بتلاوة القرآن المنزل عليهم ولم يزد في المجادلة عليه لأن ذلك يشوش القلوب ويستخرج منها الإشكالات والشبه ثم لا يقدر على محوها من قلوبهم وما كان يعجز عن مجادلتهم بالتقسيمات ودقائق الأفيسة وأن يعلم أصحابه كيفية الجدل والإلزام ولكن الأكياس وأهل الحزم لم يغتروا بهذا وقالوا لو نجا أهل الأرض وهلكنا لم تنفعنا نجاتهم ولو نجونا وهلكوا لم يضرنا هلاكهم وليس علينا في المجادلة أكثر مما كان على الصحابة مع اليهود والنصارى وأهل الملل وما ضيعوا العمر بتحرير مجادلاتهم فما لنا نضيع العمر ولا نصرفه إلى ما ينفعنا في يوم فقرنا وفاقتنا ولم نخوض فيما لا نأمن على أنفسنا الخطأ في تفاصيله ثم نرى أن المبتدع ليس يترك بدعته بجداله بل يزيد التعصب والخصومة تشدداً في بدعته فاشتغالي بمخاصمة نفسي ومجادلتها ومجاهدتها لتترك الدنيا للآخرة أولى هذا لو كنت لم أنه عن الجدل والخصومة فكيف وقد نهيت عنه وكيف أدعو إلى السنة بترك السنة فالأولى أتفقد نفسي وأنظر من صفاتها ما وفرقة أخرى اشتغلوا بالوعظ والتذكير وأعلاهم رتبة من يتكلم في أخلاق النفس وصفات القلب من الخوف والرجاء والصبر والشكر والتوكل والزهد واليقين والإخلاص والصدق ونظائره وهم مغرورون يظنون بأنفسهم أنهم إذا تكلموا بهذه الصفات ودعوا الخلق إليها فقد صاروا

موصوفين بهذه الصفات وهم منفكون عنها عند الله إلا عن قدر يسير لا ينفك عنه عوام المسلمين وغرور هؤلاء أشد الغرور لأنهم يعجبون بأنفسهم غاية الإعجاب ويظنون أنهم ما تبحروا في علم المحبة إلا وهم محبون لله وما قدروا على تحقيق دقائق الإخلاص إلا وهم مخلصون وما وقعوا على خفايا عيوب النفس إلا وهم عنها منزهون‏:‏ ولولا أنه مقرب عند الله لما عرفه معنى القرب والبعد وعلم السلوك إلى الله وكيفية قطع المنازل في طريق الله‏!‏ فالمسكين بهذه الظنون يرى أنه من الخائفين وهو آمن من الله تعالى ويرى أنه من الراجين وهو المغترين المضيعين ويرى أنه من الراضين بقضاء الله وهو من الساخطين ويرى أنه من المتوكلين على الله وهو من المتكلين على العز والجاه والمال والأسباب ويرى أنه من المخلصين وهو من المرائين‏.‏

بل يصف الإخلاص فيترك الإخلاص في الوصف ويصف الرياء ويذكره وهو يرائي بذكره ليعتقد فيه أنه لولا أنه مخلص لما اهتدى إلى دقائق الرياء ويصف الزهد في الدنيا لشدة حرصه على الدنيا وقوة رغبته فيها فهو يظهر الدعاء إلى الله وهو منه فار ويخوف بالله تعالى وهو منه آمن‏.‏

ويذكر بالله تعالى وهو له ناس ويقرب إلى الله وهو منه متباعد ويحث على الإخلاص وهو غير مخلص ويذم الصفات المذمومة وهو بها متصف ويصرف الناس عن الخلق وهو الخلق أشد حرصاً لو منع عن مجلسه الذي يدعو الناس فيه إلى الله لضاقت عليه الأرض بما رحبت ويزعم أن غرضه إصلاح الخلق ولو ظهر من أقرانه من أقبل الخلق عليه وصلحوا على يديه لمات غماً وحسداً ولو أثنى أحد من المترددين إليه على بعض أقرانه لكان أبغض خلق الله إليه‏.‏

فهؤلاء أعظم الناس غرة وأبعدهم عن التنبه والرجوع إلى السداد لأن المرغب في الأخلاق المحمود والمنفر عن المذمومة هو العلم بغوائلها وفوائدها وهذا قد علم ذلك ولم ينفعه وشغله حب دعوة الخلق عن العمل به‏.‏

فبعد ذلك بماذا يعالج وكيف سبيل تخويفه وإنما المخوف ما يتلوه على عباد الله فيخافون وهو ليس بخائف نعم إن ظن نفسه أنه موصوف بهذه الصفات المحمودة يمكن أن يدل على طريق الامتحان والتجربة وهو أن يدعي مثلاً حب الله فما الذي تركه من محاب نفسه لأجله ويدعي الخوف فما الذي امتنع منه بالخوف ويدعي الزهد فما الذي تركه مع القدرة عليه لوجه الله تعالى ويدعى الأنس بالله فمتى طابت له الخلوة‏!‏ ومتى استوحش من مشاهدة الخلق لا بل يرى قلبه يمتلئ بالحلاوة إذا أحدق به المريدون وتراه يستوحش إلا خلا بالله تعالى فهل رأيت محباً يستوحش من محبوبه ويستروح منه إلى غيره فالأكياس يمتحنون أنفسهم بهذه الصفات ويطالبونها بالحقيقة ولا يقنعون منها بالتزويق بل بموثق من الله غليظ والمغترون يحسنون بأنفسهم الظنون وإذا كشف الغطاء عنهم في الآخرة يفتضحون بل يطرحون في النار فتندلق أقتابهم فيدور بها أحدهم كما يدور الحمار بالرحى كما ورد به الخبر لأنهم يأمرون بالخير ولا يأتونه وينهون عن الشر ويأتونه وإنما وقع الغرور لهؤلاء من حيث إنهم يصادفون في قلوبهم شيئاً ضعيفاً من أصول هذه المعاني وهو حب الله والخوف منه والرضا بفعله ثم قدروا مع ذلك على وصف المنازل العالية في هذه المعاني فظنوا أنهم ما قدروا على وصف ذلك وما رزقهم الله علمه وما نفع الناس بكلامهم فيها إلا لاتصافهم بها وذهب عليهم أن القبول للكلام والكلام للمعرفة وجريان اللسان والمعرفة للعلم وأن كل ذلك غير الاتصاف بالصفة فلم يفارق آحاد المسلمين في الاتصاف بصفة الحب والخوف بل في القدرة على الوصف بل ربما زاد أمنه وقل خوفه وظهر إلى الخلق ميله وضعف في قلبه حب الله تعالى وإنما مثاله مثال مريض يصف المرض ويصف دواءه بفصاحته ويصف الصحة والشفاء وغيره من المرضى لا يقدر على وصف الصحة والشفاء وأسبابه ودرجاته وأصنافه فهو لا يفارقهم في صفة المرض والاتصاف به وإنما يفارقهم في الوصف والعلم بالطب فظنه عند علمه بحقيقة الصحة أنه صحيح غاية الجهل فكذلك العلم بالخوف والحب والتوكل والزهد وسائر هذه الصفات غير الاتصاف بحقائقها‏.‏

ومن التبس عليه وصف الحقائق بالاتصاف بالحقائق فهو مغرور فهذه حالة الوعاظ الذين لا عيب في كلامهم بل منهاج وعظهم منهاج وعظ القرآن والأخبار ووعظ الحسن البصري وأمثاله رحمة الله عليهم‏.‏

وفرقة أخرى منهم عدلوا عن المنهاج الواجب في الوعظ وهم وعاظ أهل هذا الزمان كافة إلا من عصمه الله على الندور في بعض أطراف البلاد إن كان ولسنا نعرفه فاشتغلوا بالطامات والشطح وتلفيق كلمات خارجة عن قانون الشرع والعقل طلباً للإغراب‏.‏

وطائفة شغفوا بطيارات النكت وتسجيع الألفاظ وتلفيقها فأكثر هممهم بالأسجاع والاستشهار بأشعار الوصال والفراق وغرضهم أن تكثر في مجالستهم الزعقات والتواجد ولو على أغراض فاسدة فهؤلاء شياطين الإنس ضلوا وأضلوا عن سواء السبيل فإن الأولين وإن لم يصلحوا أنفسهم فقد أصلحوا غيرهم وصححوا كلامهم ووعظهم‏.‏

وأما هؤلاء فإنهم يصدون عن سبيل الله ويجرون الخلق إلى الغرور بالله بلفظ الرجاء فيزيدهم كلامهم جرأة على المعاصي ورغبة في الدنيا لا سيما إذا كان الواعظ متزيناً بالثياب والخيل والمراكب فإنه تشهد هيئته من فرقه إلى قدمه بشدة حرصه على الدنيا فما يفسده هذا المغرور أكثر مما يصلحه بل لا يصلح أصلاً ويضل خلقاً كثيراً ولا يخفى وجه كونه مغروراً‏.‏

وفرقة أخرى منهم قنعوا بحفظ كلام الزهاد وأحاديثهم في ذم الدنيا فهم يحفظون الكلمات على وجهها ويؤدونها من غير إحاطة بمعانيها فبعضهم يفعل ذلك على المنابر وبعضهم في المحاريب وبعضهم في الأسواق مع الجلساء وكل منهم يظن أنه إذا تميز بهذا القدر عن السوقة والجندية إذ حفظ كلام الزهاد وأهل الدين دونهم فقد أفلح ونال الغرض وصار مغفوراً له وأمن عقاب الله من غير أن يحفظ ظاهره وباطنه عن الآثام ولكنه يظن أن حفظه لكلام أهل الدين يكفيه وغرور هؤلاء أظهر من غرور من قبلهم‏.‏

وفرقة أخرى استغرقوا أوقاتهم في علم الحديث أعني في سماعه وجمع الروايات الكثيرة منه وطلب الأسانيد الغريبة العالية فهمة أحدهم أن يدور في البلاد ويرى الشيوخ ليقول‏:‏ أنا أروي عن فلان ولقد رأيت فلاناً ومعي من الإسناد ما ليس مع غيري‏.‏

وغرورهم من وجوه‏:‏ منها أنهم كحملة الأسفار فإنهم لا يصرفون العناية إلى فهم معاني السنة فعلمهم قاصر وليس معهم إلا النقل ويظنون أن ذلك يكفيهم ومنها أنهم إذا لم يفهموا معانيها ولا يعملون بها وقد يفهمون بعضها أيضاً ولا يعملون به‏.‏

ومنها أنهم يتركون العلم الذي هو فرض عين وهو معرفة علاج القلب ويشتغلون بتكثير الأسانيد وطلب العالي منها ولا حاجة بهم إلى شيء من ذلك ومنها وهو الذي أكب عليه أهل الزمان أنهم أيضاً لا يقيمون بشرط السماع فإن السماع بمجرده وإن لم تكن له فائدة ولكنه مهم في نفسه للوصول إلى إثبات الحديث إذ التفهم بعد الإثبات والعمل بعد التفهم فالأول السماع ثم التفهم ثم الحفظ ثم العمل ثم النشر وهؤلاء اقتصروا من الجملة على السماع ثم تركوا حقيقة السماع فترى الصبي يحضر في مجلس الشيخ والحديث يقرأ والشيخ ينام والصبي يلعب ثم يكتب اسم الصبي في السماع فإذا كبر تصدى ليسمع منه والبالغ الذي يحضر ربما يغفل ولا يسمع ولا يصغي ولا يضبط وربما يشتغل بحديث أو نسخ والشيخ الذي يقرأ عليه لو صحف وغير ما يقرأ عليه لم يشعر به ولم يعرفه وكل ذلك جهل وغرور‏.‏

إذ الأصل في الحديث أن يسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحفظه كما سمعه ويرويه كما حفظه فتكون الرواية عن الحفظ والحفظ عن السماع‏.‏

فإن عجزت عن سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته من الصحابة أو التابعين وصار سماعك عن الراوي كسماع من سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أن تصغي لتسمع فتحفظ وتروي كما حفظت وتحفظ كما سمعت بحيث لا تغير منه حرفاً ولو غير غيرك منه حرفاً أو أخطأ علمت خطأه‏.‏

وللحفظ طريقان أحدهما أن تحفظ بالقلب وتستديمه بالذكر والتكرار كما تحفظ ما جرى على سمعك في مجاري الأحوال‏.‏

والثاني أن تكتب كما تسمع وتصحح المكتوب وتحفظه حتى لا تصل إليه يد من يغيره ويكون حفظك للكتاب معك وفي خزانتك فإنه لو امتدت إليه يد غيرك ربما غيره فإذا لم تحفظه لم تشعر بتغييره فيكون محفوظاً بقلبك أو بكتابك فيكون كتابك مذكراً فإذا لم تحفظ لا بالقلب ولا بالكتاب وجرى على سمعك صوت غفل وفارقت المجلس ثم رأيت نسخة لذلك الشيخ وجوزت أن يكون ما فيه مغيراً أو يفارق حرف منه للنسخة التي سمعتها لم يجز لك أن تقول‏:‏ سمعت هذا الكتاب فإنك لا تدري لعلك لم تسمع ما فيه بل سمعت شيئاً يخالف ما فيه ولو في كلمة‏.‏

فإذا لم يكن معك حفظ بقلبك ولا نسخة صحيحة استوثقت عليها لتقابل بها فمن أين تعلم أنك سمعت ذلك وقد قال الله تعالى ‏"‏ ولا تقف ما ليس لك به علم ‏"‏ وقول الشيوخ كلهم في هذا الزمان إنا سمعنا ما في هذا الكتاب إذا لم يوجد الشرط الذي ذكرناه فهو كذب صريح‏.‏

وأقل شروط السماع أن يجري الجميع على السمع مع نوع من الحفظ ويشعر معه بالتغيير ولو جاز أن يكتب سماع الصبي والغافل والنائم والذي ينسخ لجاز أن يكتب سماع المجنون الصبي في المهد ثم إذا بلغ الصبي وأفاق المجنون يسمع عليه ولا خلاف في عدم جوازه ولو جاز ذلك لجاز أن يكتب سماع الجنين في البطن فإن كان لا يكتب سماع الصبي في المهد لأنه لا يفهم ولا يحفظ فالصبي الذي لا يلعب والغافل والمشغول بالنسخ عن السماع ليس بينهم ولا يحفظ وإن استجرأ جاهل فقال‏:‏ يكتب سماع الصبي في المهد فليكتب سماع الجنين في البطن فإن فرق بينهما بأن الجنين لا يسمع الصوت وهذا يسمع الصوت فما ينفع هذا وهو إنما ينقل الحديث دون الصوت فليقتصر إذا صار شيخاً على أن يقول‏:‏ سمعت بعد بلوغي أني في صباي حضرت مجلساً يروى فيه حديث كان يقرع سمعي صوته ولا أدري ما هو فلا خلاف في أن الرواية كذلك لا تصح وما زاد عليه فهو كذب صريح ولو جاز إثبات سماع التركي الذي لا يفهم العربية لأنه سمع صوتاً غفلاً لجاز إثبات سماع صبي في المهد وذلك غاية الجهل‏.‏

ومن أين يأخذ هذا وهل للسماع مستند إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداه كما سمعها وكيف يؤدي كما سمع من لا يدري ما سمع فهذا أفحش أنواع الغرور‏.‏

وقد بلي بهذا أهل الزمان ولو اختلط أهل الزمان لم يجدوا شيوخاً إلا الذين سمعوه في الصبا على هذا الوجه مع الغفلة إلا أن للمحدثين في ذلك جاهاً وقبولاً فخاف المساكين أن يشترطوا ذلك فيقل من يجتمع لذلك في حلقهم فينقص جاههم وتقل أيضاً أحاديثهم التي قد سمعوها بهذا الشرط بل ربما عدموا ذلك وافتضحوا فاصطلحوا على أنه ليس يشترط إلا أن يقرع سمعه دمدمة وإن كان لا يدري ما يجري وصحة السماع لا تعرف من قول المحدثين لأنه ليس من علمهم بل من علم علماء الأصول بالفقه وما ذكرناه مقطوع به في قوانين أصول الفقه فهذا غرور هؤلاء ولو سمعوا على الشرط لكانوا أيضاً مغرورين في اقتصارهم على النقل وإفناء أعمارهم في جمع الروايات والأسانيد وإعراضهم عن مهمات الدين ومعرفة الأخبار بل الذي يقصد من الحديث سلوك طريق الآخرة وسالك طريقها ربما يكفيه الحديث الواحد عمره كما روي عن بعض الشيوخ أنه حضر مجلس السماع فكان أول حديث روي قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏ من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه فقام وقال‏:‏ يكفيني هذا حتى أفرغ منه ثم أسمع غيره‏.‏

فهكذا يكون سماع الأكياس الذين يحذرون الغرور‏.‏

وفرقة أخرى اشتغلوا بعلم النحو واللغة والشعر وغريب اللغة واغتروا به وزعموا أنهم قد غفر لهم وأنهم من علماء الأمة إذ قوام الدين بالكتاب والسنة وقوام الكتاب والسنة بعلم اللغة والنحو فأفنى هؤلاء أعمارهم في دقائق النحو وفي صناعة الشعر وفي غريب اللغة ومثالهم كمن يفني جميع العمر في تعلم الخط وتصحيح الحروف وتحسينها ويزعم أن العلوم لا يمكن حفظها إلا بالكتابة فلا بد من تعلمها وتصحيحها ولو عقل لعلم أنه يكفيه أن يتعلم أصل الخط بحيث يمكن أن يقرأ كيفما كان والباقي زيادة على الكفاية وكذلك الأديب لو عقل لعرف أن لغة العرب كلغة الترك والمضيع عمره في معرفة لغة العرب كالمضيع له في معرفة لغة الترك والهند وإنما فارقتها لغة العرب لأجل ورود الشريعة بها فيكفي من اللغة علم الغريبين في الأحاديث والكتاب ومن النحو ما يتعلق بالحديث والكتاب فأما التعمق فيه إلى درجات لا تتناهى فهو فضول مستغنى عنه ثم لو اقتصر عليه وأعرض عن معرفة معاني الشريعة والعمل بها فهذا أيضاً مغرور بل مثاله مثال من ضيع عمره في تصحيح مخارج الحروف في القرآن واقتصر عليه وهو غرور إذ المقصود من الحروف المعاني وإنما الحروف ظروف وأدوات ومن احتاج إلى أن يشرب السكنجبين ليزول ما به من الصفراء وضيع أوقاته في تحسين القدح الذي يشرب فيه السكنجبين فهو من الجهال المغرورين فذلك غرور أهل النحو والأدب والقراءات والتدقيق في مخارج الحروف مهما تعمقوا فيها وتجردوا لها وعرجوا عليها أكثر مما يحتاج إليه في تعلم العلوم التي هي فرض عين فاللب الأقصى هو العمل والذي فوقه هو معرفة العمل وهو كالقشر للعمل وكاللب بالإضافة إلى ما فوقه هو سماع الألفاظ وحفظها بطريق الرواية وهو قشر بطريق الإضافة إلى المعرفة ولب بالإضافة إلى ما فوقه وما فوقه هو العلم باللغة والنحو وفوق ذلك وهو القشر الأعلى العلم بمخارج الحروف والقانعون بهذه الدرجات كلهم مغترون إلا من اتخذه هذه الدرجات منازل فلم يعرج عليها إلا بقدر حاجته فتجاوز إلى ما وراء ذلك حتى وصل إلى لباب العمل فطالب بحقيقة العمل قلبه وجوارحه ورجى عمره في حمل النفس عليه وتصحيح الأعمال وتصفيتها عن الشوائب والآفات‏.‏

فهذا هو المقصود المخدوم من جملة علوم الشرع وسائر العلوم خدم له ووسائل إليه وقشور له ومنازل بالإضافة إليه فهذا هو المقصود المخدوم من جملة علوم الشرع وسائر العلوم خدم له ووسائل إليه وقشور له ومنازل بالإضافة إليه وكل من لم يبلغ المقصد فقد خاب سواء كان في المنزل القريب أو في المنزل البعيد‏.‏

وهذه العلوم لما كانت متعلقة بعلوم الشرع اغتر بها أربابها‏.‏

فأما علم الطلب والحساب والصناعات وما يعلم أنه ليس من علوم الشرع فلا يعتقد أصحابها أنهم ينالون المغفرة بها من حيث إنها علوم فكان الغرور بها أقل من الغرور بعلوم الشرع لأن العلوم الشرعية مشتركة في أنها محمود كما يشارك القشر اللب في كونه محموداً ولكن المحمود منه لعينه هو المنتهى‏.‏

والثاني محمود للوصول به إلى المقصود الأقصى فمن اتخذ القشر مقصوداً وعرج عليه فقد اغتر به‏.‏

وفرقة أخرى عظم غرورهم في فن الفقه فظنوا أن حكم العبد بينه وبين الله يتبع حكمه في مجلس القضاء فوضعوا الحيل في دفع الحقوق وأساءوا تأويل الألفاظ المهمة واغتروا بالظواهر وأخطئوا فيها‏.‏

وهذا من قبيل الخطأ في الفتوى والغرور فيه والخطأ في الفتاوى مما يكثر‏.‏

ولكن هذا نوع عم الكافة إلا الأكياس منهم فنشير إلى أمثلة‏:‏ فمن ذلك فتواهم بأن المرأة متى أبرأت من الصدق برئ الزوج بينه وبين الله تعالى وذلك خطأ بل الزوج قد يسيء إلى الزوجة بحيث يضيق عليها الأمور بسوء الخلق فتضطر إلى طلب الخلاص فتبرئ الزوج لتتخلص منه فهو إبراء لا على طيبة نفس وقد قال تعالى ‏"‏ فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً ‏"‏ وطيبة النفس غير طيبة القلب فقد يريد الإنسان بقلبه ما لا تطيب به نفسه فإنه يريد الحجامة بقلبه ولكن تكرهها نفسه وإنما طيبة النفس أن تسمح نفسها بالإبراء لا عن ضرورة تقابله حتى إذا رددت بين ضررين اختارت أهونهما فهذه مصادرة على التحقيق بإكراه الباطن‏.‏

نعم القاضي في الدنيا لا يطلع على القلوب والأغراض فينظر إلى الإبراء الظاهر وأنها لم تكره بسبب ظاهر والإكراه الباطن ليس يطلع الخلق عليه ولكن مهما تصدى القاضي الأكبر في صعيد القيامة للقضاء لم يكن هذا محسوباً ولا مقيداً في تحصيل الإبراء ولذلك لا يحل أن يؤخذ مال إنسان إلا بطيب نفس منه فلو طلب من الإنسان مالا على ملأ من الناس فاستحيا من الناس أن لا يعطيه وكان يود أن يكون سؤاله في خلوة حتى لا يعطيه ولكن خاف ألم مذمة الناس وخاف ألم تسليم المال وردد نفسه بينهما فاختار أهون الألمين وهو ألم التسليم فسلمه فلا فرق بين هذا وبين المصادرة إذ معنى المصادرة إيلام البدن بالسوط حتى يصير ذلك أقوى من ألم القلب ببذل المال فيختار أهون الألمين والسؤال في مظنة الحياء والرياء ضرب للقلب بالسوط ولا فرق بين ضرب الباطن وضرب الظاهر عند الله تعالى فإن الباطن عند الله تعالى ظاهر وإنما حاكم الدنيا هو الذي يحكم بالملك بظاهر قوله وهبت لأنه لا يمكنه الوقوف على ما القلب وكذلك من يعطى اتقاء لشر لسانه أو لشر سعايته فهو حرام عليه وكذلك كل مال يؤخذ على هذا الوجه فهو حرام‏.‏

ألا ترى ما جاء في قصة داود عليه السلام حيث قال بعد أن غفر له يا رب كيف لي بخصمي فأمر بالاستحلال منه وكان ميتاً فأمر بندائه في صخرة بيت المقدس فنادى‏:‏ يا أوريا فأجابه‏:‏ لبيك يا نبي الله أخرجتني من الجنة فما تريد فقال‏:‏ إني أسأت إليك في أمر فهبه لي قال‏:‏ قد فعلت ذلك يا نبي الله فانصرف وقد ركن إلى ذلك فقال له جبريل عليه السلام‏:‏ هل ذكرت له ما فعلت قال‏:‏ ألم أهبه لك قال‏:‏ ألا تسألني ما ذلك الذنب قال‏:‏ ما هو يا نبي الله قال‏:‏ كذا وكذا وذكر شأن المرأة فانقطع الجواب فقال يا أوريا ألا تجيبني قال‏:‏ يا نبي الله ما هكذا يفعل الأنبياء حتى أقف معك بين يدي الله فاستقبل داود البكاء والصراخ من الرأس حتى وعده الله أن يستوهبه منه في الآخرة‏.‏

فهكذا ينبهك أن الهبة من غير طيبة قلب لا تفيد وأن طيبة القلب لا تحصل إلا بالمعرفة فكذلك طيبة القلب لا تكون في الإبراء والهبة وغيرهما إلا إذا خلى الإنسان واختياره حتى تنبعث الدواعي من ذات نفسه لا أن تضطر بواعثه إلى الحركة بالحيل والإلزام‏.‏

ومن ذلك هبة الرجل مال الزكاة في آخر الحول من زوجته واتهابه مالها لإسقاط الزكاة فالفقيه يقول‏:‏ سقطت الزكاة فإن أراد به أن مطالبة السلطان والساعي سقطت عنه فقد صدق فإن مطمح نظرهم ظاهر الملك وقد زال وإن ظن أنه يسلم في القيامة ويكون كمن لم يملك المال أو كمن باع لحاجته إلى المبيع لا على هذا القصد فما أعظم جهله بفقه الدين وسر الزكاة فإن سر الزكاة تطهير القلب عن رذيلة البخل فإن البخل مهلك قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ثلاث مهلكات شح مطاع وإنما صار شحه مطاعاً بما فعله وقبله لم يكن مطاعاً‏.‏

فقد تم هلاكه بما يظن أن فيه خلاصه فإن الله مطلع على قلبه وحبه المال وحرصه عليه وأنه بلغ من حرصه على المال أن استنبط الحيل حتى يسد على نفسه طريق الخلاص من البخل بالجهل والغرور ومن ذلك إباحة الله مال المصالح للفقيه وغيره بقدر الحاجة والفقهاء المغرورون لا يميزون بين الأماني والفضول والشهوات وبين الحاجات بل كل ما لا تتم رعونتهم إلا به يرونه حاجة وهو محض الغرور بل الدنيا خلقت لحاجة العباد إليها في العبادة وسلوك طريق الآخرة فكل ما تناوله العبد للاستعانة به على الدين والعبادة فهو حاجته وما عدا ذلك فهو فضوله وشهوته ولو ذهبنا نصف غرور الفقهاء في أمثال هذا لملأنا فيه مجلدات والغرض من ذلك التنبيه على أمثلة تعرف الأجناس دون الاستيعاب فإن ذلك يطول‏.‏

الصنف الثاني أرباب العبادة والعمل

والمغرورون منهم فرق كثيرة فمنهم من غروره في الصلاة‏.‏

ومنهم من غروره في تلاوة القرآن‏.‏

ومنهم في الحج‏.‏

ومنهم في الغزو‏.‏

ومنهم في الزهد وكذلك كل مشغول بمنهج من مناهج العمل فليس خالياً عن غرور إلا الأكياس وقليل ما هم‏.‏

فمنهم فرقة أهملوا الفرائض واشتغلوا بالفضائل والنوافل وربما تعمقوا في الفضائل حتى خرجوا إلى العدوان والسرف كالذي تغلب عليه الوسوسة في الوضوء فيبالغ فيه ولا يرضى الماء المحكوم بطهارته في فتوى الشرع ويقدر الاحتمالات البعيدة قريبة في النجاسة وإذا آل الأمر إلى أكل الحلال قدر الاحتمالات القريبة بعيدة وربما أكل الحرام المحض ولو انقلب هذا الاحتياط من الماء إلى الطعام لكان أشبه بسيرة الصحابة إذ توضأ عمر رضي الله عنه بماء في جرة نصرانية مع ظهور احتمال النجاسة وكان مع هذا يدع أبواباً من الحلال مخافة من الوقوع في الحرام‏.‏

ثم من هؤلاء من يخرج إلى الإسراف في صب الماء وذلك منهي عنه وقد يطول الأمر حتى يضيع الصلاة ويخرجها عن وقتها وإن لم يخرجها أيضاً عن وقتها فهو مغرور لما فاته من فضيلة أول الوقت وإن لم يفته فهو مغرور لإسرافه في الماء وإن لم يسرف فهو مغرور لتضييعه العمر الذي هو أعز الأشياء فيما له مندوحة عنه إلا الشيطان يصد الخلق عن الله بطريق سني ولا يقدر على صد العباد إلا بما يخيل إليهم أنه عبادة فيبعدهم عن الله بمثل ذلك‏.‏

وفرقة أخرى غلب عليها الوسوسة في نية الصلاة فلا يدعه الشيطان حتى يعقد نية صحيحة بل يشوش عليه حتى تفوته الجماعة ويخرج الصلاة عن الوقت وإن تم تكبيره فيكون في قلبه بعد تردد في صحة نيته وقد يوسوسون في التكبير حتى قد يغيرون صيغة التكبير لشدة الاحتياط فيه يفعلون ذلك في أول الصلاة ثم يغفلون في جميع الصلاة فلا يحضرون قلوبهم ويغترون بذلك ويظنون أنهم إذا أتعبوا أنفسهم في تصحيح النية في أول الصلاة وتميزوا عن العامة بهذا الجهد والاحتياط فهم على خير عند ربهم‏.‏

وفرقة أخرى تغلب عليهم الوسوسة في إخراج حروف الفاتحة وسائر الأذكار من مخارجها فلا يزال يحتاط في التشديدات والفرق بين الضاد والظاء وتصحيح مخارج الحروف في جميع صلاته لا يهمه غيره ولا يتفكر فيما سواء ذاهلاً معنى القرآن والاتعاظ به وصرف الفهم إلى أسراره‏.‏

وهذا من أقبح أنواع الغرور فإنه لم يكلف الخلق في تلاوة القرآن من تحقيق مخارج الحروف إلا بما جرت به عادتهم في الكلام‏.‏

ومثال هؤلاء مثال من حمل رسالة إلى مجلس سلطان وأمر أن يؤديها على وجهها فأخذ يؤدي الرسالة ويتأنق في مخارج الحروف ويكررها ويعيدها مرة بعد أخرى وهو في ذلك غافل عن مقصود الرسالة ومراعاة حرمة المجلس فما أحراه بأن تقام عليه السياسة ويرد إلى دار المجانين ويحكم عليه بفقد العقل‏.‏

‏"‏ وفرقة أخرى ‏"‏ اغتروا بقراءة القرآن فيهذونه هذا وربما يختمونه في اليوم والليلة مرة ولسان أحدهم يجري به وقلبه يتردد في أودية الأماني إذ لا يتفكر في معاني القرآن لينزجر بزواجره ويتعظ بمواعظه ويقف عند أوامره ونواهيه ويعتبر بمواضع الاعتبار فيه إلى غير ذلك مما ذكرناه في كتاب تلاوة القرآن من مقاصد التلاوة فهو مغرور يظن أن المقصود من إنزال القرآن الهمهمة به مع الغفلة عنه‏.‏

ومثاله‏:‏ مثال عبد كتب إليه مولاه ومالكه كتاباً وأشار إليه فيه بالأوامر والنواهي فلم يصرف عنايته إلى فهمه والعمل به ولكن اقتصر على حفظه فهو مستمر على خلاف ما أمره به مولاه إلا أنه يكرر الكتاب بصوته ونغمته كل يوم مائة مرة فهو مستحق للعقوبة ومهما ظن أن ذلك هو المراد منه فهو مغرور‏.‏

نعم تلاوته إنما تراد لكيلا ينسى بعد لحفظه وحفظه يراد لمعناه ومعناه يراد للعمل به والانتفاع بمعانيه وقد يكون له صوت طيب فهو يقرؤه ويلتذ به ويغتر باستلذاذه ويظن أن ذلك لذة مناجاة الله تعالى وسماع كلامه وإنما هي لذته في صوته ولو ردد ألحانه بشعر أو كلام آخر لالتذ به ذلك الالتذاذ فهو مغرور إذ لم يتفقد قلبه فيعرفه أن لذته بكلام الله تعالى من حيث حسن نظمه ومعانيه أو بصوته‏.‏

وفرقة أخرى اغتروا بالصوم وربما صاموا الدهر أو صاموا الأيام الشريفة وهم فيها لا يحفظون ألسنتهم عن الغيبة وخواطرهم عن الرياء وبطونهم عن الحرام عند الإفطار وألسنتهم عن الهذيان بأنواع الفضول طول النهار وهو مع ذلك يظن بنفسه الخير فيهمل الفرائض ويطلب النقل ثم لا يقوم بحقه وذلك غاية الغرور‏.‏

وفرقة أخرى اغتروا بالحج فيخرجون إلى الحج من غير خروج عن المظالم وقضاء الديون واسترضاء الوالدين وطلب الزاد الحلال وقد يفعلون ذلك بعد سقوط حجة الإسلام ويضيعون في الطريق الصلاة والفرائض ويعجزون عن طهارة الثوب والبدن ويتعرضون لمكس الظلمة حتى يؤخذ منهم ولا يحذرون في الطريق من الرفث والخصام وربما جمع بعضهم الحرام وأنفقه على الرفقاء في الطريق وهو يطلب به السمعة والرياء فيعصي الله تعالى في كسب الحرام أولاً وفي إنفاقه بالرياء ثانياً فلا هو أخذه من حله ولا وضعه في حقه ثم يحضر البيت بقلب ملوث برذائل الأخلاق وذميم الصفات لم يقدم تطهيره على حضوره وهو مع ذلك يظن أنه على خير من ربه فهو مغرور‏.‏

وفرقة أخرى أخذت في طريق الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينكر على الناس ويأمرهم بالخير وينسى نفسه وإذا أمرهم بالخير عنف وطلب الرياسة والعزة وإذا باشر منكراً ورد عليه غضب وقال‏:‏ أنا المحتسب فكيف تنكر علي وقد يجمع الناس إلى مسجده ومن تأخر عنه أغلظ القول عليه وإنما غرضه الرياء والرياسة ولو قام بتعهد المسجد غيره لحرد عليه بل منهم من يؤذن ويظن أنه يؤذن لله ولو جاء غيره وأذن في وقت غيبته قامت عليه القيامة وقال‏:‏ لم آخذ حقي وزوحمت على مرتبتي وكذلك قد يتقلد إمامة مسجد ويظن أنه على خير وإنما غرضه أن يقال إنه إمام مسجد فلو تقدم غيره وإن كان أورع وأعلم منه ثقل عليه‏.‏

وفرقة أخرى جاوروا بمكة أو المدينة واغتروا بمكة ولم يراقبوا قلوبهم ولم يطهروا ظاهرهم وباطنهم فقلوبهم معلقة ببلادهم ملتفتة إلى قول من يعرفه أن فلاناً مجاور بذلك وتراه يتحدى ويقول‏:‏ قد جاورت بمكة كذا وكذا سنة وإذا سمع أن ذلك قبيح ترك صريح التحدي وأحب أن يعرفه الناس بذلك ثم إنه قد يجاور ويمد عين طمعه إلى أوساخ أموال الناس وإذا جمع من ذلك شيئاً شح به وأمسكه لم تسمع نفسه بلقمة يتصدق بها على فقير فيظهر فيه الرياء والبخل والطمع وجملة من المهلكات كان عنها بمعزل لو ترك المحاورة ولكن حب المحمدة وأن يقال إنه من المجاورين ألزمه المجاورة مع التضمخ بهذه الرذائل فهو أيضاً مغرور ولا يعرف شرح ذلك إلا من جملة كتب إحياء علوم الدين فيعرف مداخل الغرور في الصلاة من كتاب الصلاة وفي الحج من كتاب الحج والزكاة والتلاوة وسائر القربات من الكتب التي رتبناها فيها وإنما الغرض الآن الإشارة إلى مجامع ما سبق في الكتب‏.‏

وفرقة أخرى زهدت في المال وقنعت من اللباس والطعام بالدون ومن المسكن بالمساجد وظنت أنها أدركت رتبة الزهاد وهو مع ذلك راغب في الرياسة والجاه إما بالعلم أو بالوعظ أو بمجرد الزهد فقد ترك أهون الأمرين وباء بأعظم المهلكين فإن الجاه أعظم من المال ولو ترك الجاه وأخذ المال كان إلى السلامة أقرب فهذا مغرور إذ ظن أنه من الزهاد في الدنيا وهو لم يفهم معنى الدنيا ولم يدر أن منتهى لذاتها لرياسة وأن الراغب فيها لا بد وأن يكون منافقاً وحسوداً الخلوة والعزلة وهو مع ذلك مغرور إذ يتطول بذلك على الأغنياء ويخشن معهم الكلام وينظر إليهم بعين الاستحقار ويرجوا لنفسه أكثر مما يرجو لهم ويعجب بعمله ويتصف بجملة من خبائث القلوب وهو لا يدري وربما يعطى المال فلا يأخذه خيفة من أن يقال بطل زهده ولو قيل له إنه حلال فخذه في الظاهر ورده في الخفية لم تسمح به نفسه خوفاً من ذم الناس فهو راغب في حمد الناس وهو من ألذ أبواب الدنيا ويرى نفسه أنه زاهد في الدنيا وهو مغرور ومع ذلك فربما لا يخلو من توقير الأغنياء وتقديمهم على الفقراء والميل إلى المريدين له والمثنين عليه والنفرة عن المائلين إلى غيره من الزهاد وكل ذلك خدعة وغرور من الشيطان نعوذ بالله منه‏.‏

وفي العباد من يشدد على نفسه في أعمال الجوارح حتى ربما يصلي في اليوم والليلة مثلاً ألف ركعة ويختم القرآن وهو في جميع ذلك لا يخطر له مراعاة القلب وتفقده وتطهيره من الرياء والكبر والعجب وسائر المهلكات فلا يدري أن ذلك مهلك وإن علم ذلك فلا يظن بنفسه ذلك وإن ظن بنفسه ذلك توهم أنه مغفور له لعمله الظاهر وأنه غير مؤاخذ بأحوال القلب وإن توهم فيظن أن العبادات الظاهرة تترجح بها كفة حسناته وهيهات‏!‏ وذرة من ذي تقوى وخلق واحد من أخلاق الأكياس أفضل من أمثال الجبال عملاً بالجوارح ثم لا يخلو لهذا المغرور مع سوء خلقه مع الناس وخشونته وتلوث باطنه عن الرياء وحب الثناء فإذا قيل له أنت من أوتاد الأرض وأولياء الله وأحبابه فرح المغرور بذلك وصدق به وزاده ذلك غروراً وظن أن تزكية الناس له دليل على كونه مرضياً عند الله ولا يدري أن ذلك لجهل الناس بخبائث باطنه‏.‏

وفرقة أخرى حرصت على النوافل ولم يعظم اعتدادها بالفرائض ترى أحدهم يفرح بصلاة الضحى وبصلاة الليل وأمثال هذه النوافل ولا يجد للفريضة لذة ولا يشتد حرصه على المبادرة بها في أول الوقت وينسى قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه ‏"‏ ما تقرب المتقربون إلي بمثل أداء ما افترضت عليهم وترك الترتيب بين الخيرات من جملة الشرور‏.‏

بل قد يتعين في الإنسان فرضان‏:‏ أحدهما يفوت والآخر لا يفوت أو فضلان أحدهما يضيق وقته والآخر يتسع وقته‏.‏

فإن لم يحفظ الترتيب فيه كان مغروراً‏.‏

ونظائر ذلك أكثر من أن تحصى فإن المعصية ظاهرة والطاعة ظاهرة وإنما الغامض تقديم بعض الطاعات على بعض كتقديم الفرائض كلها على النوافل وتقديم فروض الأعيان على فروض الكفاية وتقديم فرض كفاية لا قائم به على ما قام به غيره وتقديم الأهم من فروض الأعيان على ما دونه وتقديم ما يفوت على ما لا يفوت وهذا كما يجب تقديم حاجة الوالدة على حاجة الوالد إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له‏:‏ من أبر يا رسول الله قال ‏"‏ أمك ‏"‏ قال‏:‏ ثم من قال ‏"‏ أمك ‏"‏ قال ثم من قال ‏"‏ أمك ‏"‏ قال‏:‏ ثم من قال ‏"‏ أباك ‏"‏ قال‏:‏ ثم من قال ‏"‏ أدناك فأدناك فينبغي أن يبدأ في الصلة بالأقرب فإن استويا فبالأحوج فإن استويا فبالأتقى والأورع‏.‏

وكذلك من لا يفي ماله بنفقة الوالدين والحج فربما يحج وهو مغرور بل ينبغي أن يقدم حقهما على الحج وهذا من تقديم فرض أهم على فرض هو دونه‏.‏

وكذلك إذا كان على العبد ميعاد ودخل وقت الجمعة فالجمعة تفوق والاشتغال بالوفاء بالوعد معصية وإن كان هو طاعة في نفسه‏.‏

وكذلك قد تصيب ثوبه النجاسة فيغلظ القول على أبويه وأهله بسبب ذلك فالنجاسة محذورة وإيذاؤهما محذور والحذر من الإيذاء أهم من الحذر من النجاسة‏.‏

وأمثلة تقابل المحذورات والطاعات لا تنحصر‏.‏

ومن ترك الترتيب في جميع ذلك فهو مغرور‏.‏

وهذا غرور في غاية الغموض لأن المغرور فيه في طاعة إلا أنه لا يفطن لصيرورة الطاعة معصية حيث ترك بها طاعة واجبة هي أهم منها‏.‏

ومن جملته الاشتغال بالمذهب والخلاف من الفقه في حق من بقي عليه شغل من الطاعات والمعاصي الظاهرة والباطنة المتعلقة بالجوارح والمتعلقة بالقلب لأن مقصود الفقه معرفة ما يحتاج إليه غيره في حوائجه‏.‏

فمعرفة ما يحتاج هو إليه في قلبه أولى به إلا أن حب الرياسة والجاه ولذة المباهاة وقهر الأقران والتقدم عليه يعمي عليه حتى يغتر به مع نفسه ويظن أنه مشغول بهم دينه‏.‏